الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي أنا هذا.ف {ذلك} إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: ألم هذا الكتاب لا ريب فيه.وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما؛ ومنه قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} [البقرة: 252] أي هذه؛ لكنها لما انقضت صارت كأنها بَعُدَت فقيل تلك.وفي البخاريّ: وقال معمر ذلك الكتاب: هذا القرآن.{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} بيان ودلالة؛ كقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] هذا حكم الله.قلت: وقد جاء هذا بمعنى {ذلك}؛ ومنه قوله عليه السلام في حديث أُمِّ حَرَام: «يركبون ثَبَج هذا البحر» أي ذلك البحر؛ والله أعلم.وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب.واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة؛ فقيل: {ذلك الكتاب} أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا رَيْب فيه؛ أي لا مبدِّل له.وقال: ذلك الكتاب؛ أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل: «أن رحمتي سبقت غضبي» وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أنّ رحمتي تغلب غضبي» في رواية: «سبقت» وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيّه عليه السلام أن ينزل عليه كتابًا لا يمحوه الماء؛ فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمَار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب: وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظانَ» الحديث.وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة.وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيّه صلى الله عليه وسلم بمكة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفًا لإنجاز هذا الوعد من ربّه عزّ وجلّ؛ فلما أنزل عليه بالمدينة: {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة.وقيل: إن {ذلك} إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل.و{الم} اسم للقرآن؛ والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل؛ يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما.وقيل: إن {ذلك الكتاب} إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما؛ والمعنى: ألم ذانك الكتابان أو مثل ذَيْنِك الكتابين؛ أي هذا القرآن جامع لما في ذَيْنِك الكتابين؛ فعبّر ب {ذلك} عن الاثنين بشاهد من القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] أي عَوان بين تَيْنك.الفارض والبكر؛ وسيأتي.وقيل: إن {ذلك} إشارة إلى اللَّوْح المحفوظ.وقال الكسائي: {ذلك} إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعدُ.وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابًا؛ فالإشارة إلى ذلك الوعد.قال المبّرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: {الم} الحروف التي تحدّيْتُكم بالنظم منها.والكتاب مصدر مِن كَتَب يَكْتُب إذا جمع؛ ومنه قيل: كَتِيبة؛ لاجتماعها.وتكتَّبت الخيل صارت كتائب.وكتبْتُ البغلةَ: إذا جمعتَ بين شُفْرَيْ رَحِمِها بحلْقة أو سَيْر؛ قال: والكُتْبة بضم الكاف: الخُرْزَةُ، والجمع كُتَبٌ.والكَتْبُ: الخَرْز.قال ذو الرُّمة: والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة؛ وسُمّي كتابًا وإن كان مكتوبًا؛ كما قال الشاعر: والكتاب: الفَرْض والحُكم والقَدَر؛ قال الجَعْدِيّ:
وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في الحماسة: فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة.وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونًا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في {الم} [البقرة: 1] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم: {افتراه} [يونس: 38] وقولهم: {أساطير الأولين} [الأنعام: 25].ولا يرد على هذا قوله: {وهذا كتاب أنزلناه} [الأنعام: 92] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه.ولعل صاحب الكشاف بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ: {ذلك الكتاب} تنبيهًا على التعظيم أو الاعتبار، فللَّه در صاحب المفتاح إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة: أوْ أنْ يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا: {الم ذلك الكتاب} ذهابًا إلى بعده درجةً.وقوله: {الكتاب} يجوز أن يكون بدلًا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة {لا ريب فيه} ويجوز أن يكون {الكتاب} خبرًا عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه ألم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوًا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال. اهـ.
|